أهمية الفتوى في الإسلام

تمهيد

الفتوى تعالج الجهل، وتبصّر بأمور الشّرع، وتجيب على التساؤلات، وتؤسّس العقائد والمعارف، وتصحّحها، وتوجّه الأمّة، وترسّخ، في عقول أبنائها، الحلول والتصورات التي نشأت في ذهن المجتمع بسبب التدافع الفكري والاحتكاك المعرفي …

وعندما تداهم الناس الملمّات، وتكثر بينهم النّزاعات، ينزعون إلى الفقهاء المفتين المجتهدين. ومن فضل الله تعالى على الأمّة الإسلامية، وجود مجتهدين يصنّفون، وفقهاء يدرّسون، وعلماء يفتون … لذلك كان مقام الإفتاء في الإسلام عظيما، وكانت مكانته متميزة [1]، وكانت حاجة الناس إلى الإفتاء وإلى معرفة دينهم، ليست أقل من حاجتهم إلى ضرورات الحياة الأخرى.

فالمفتون يبيّنون للناس الأحكام الشرعية، يدفعون الشّبهات والشّهوات، يحافظون على المجتمع وقيمه من الاعتلال والاختلال، ويجيبون عن الأسئلة الدّينية … إذ لا قيمة لعالم أو مجتهد مالم يعمل بعلمه واجتهاده ويخرجه إلى الناس لينتفعوا به. إنهم يقومون بوظيفة نبوية، ومهمة ربانية: “ يستفتونك قل الله يفتيكم’’ [2].

لذلك اعتنى المسلمون، على مرّ التاريخ، بالفتوى، لأهمّيتها. وقد قام بهذه المهمّة، في البداية، رسول الله ﷺ، ثم الصحابة والتابعون، فالأئمة والفقهاء. ولكيلا يتعرّض أمر الفتوى للتساهل وللعبث، قام الأصوليون بضبط أسس الإفتاء وعرّفوا المفتي والمستفتي وحدّدوا مواصفاتهم وواجباتهم[3]. كما اشترط الفقهاء، في المفتي، الاطلاع على بعض العلوم، والقدرة على الفهم والتحليل والاستنباط، وإدراك الواقع ، مع الورع العاصم من الأهواء والشّطحات … فشدّدوا كثيرا في شأن الفتوى والمفتين[4].

ولتغيير واقع الناس، اتّجهت الفتوى إلى الميادين التربوية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، متجاوزة، بذلك، حدود علاقة الإنسان بربّه.

وسيعالج هذا البحث أهمّية الفتوى في الإصلاح في فصلين اثنين:

الفصل الأول: مفهوم الفتوى ونشأتها ومجالها

الفصل الثاني: الدور الإصلاحي للفتوى

الفصل الأول: مفهوم الفتوى ونشأتها ومجالها

للفتوى معان لغوية واصطلاحية تبيّن وظيفتها وتحدّد مسارها.

  المبحث الأول: تعريف الفتوى لغة واصطلاحا  

        أالمعنى اللغوي

أصل كلمة “ فتوى’’ من الثلاثي: “ ف ت ي” وهي مادة تدل على البيان والإيضاح. ويظهر أن التعبير بكلمة “ فتيا’’ أفصح من التعبير بكلمتي “ فتوى’’ بفتح الفاء، و’’ فتوى’’ بضم الفاء، لكثرة شيوعها في اللسان العربي[5]. والفاء والتاء والحرف المعتل أصلان: أحدهما يدلّ على الطراوة والجدّة … فالفتى هو الشاب، والفتاة هي الشابة، والفتي الطري من الإبل. المفتي يقوّي ما أشكل ببيانه، فيصبح قويّا ويكسبه قوة كقوة الفتى الشاب. والثاني يدل على تبيين الحكم. والاسم منه الفتوى والفتيا.

“الفتوى’’ : اسم مصدر يعني الإفتاء، والجمع هو الفتاوى) بفتح الواو (والفتاوي(بكسر الواو(. يقال: تفاتى الناس إلى فقيه أي تحاكموا إليه ليجيبهم وليبيّن لهم المشكل من الأحكام وليحدث لهم أحكاما.  ويقال: أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألة. وأفتاه في الأمر: أبانه له.

وفي الحديث:’’ الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك’’ [6] (وإن أفتاك الناس وأفتوك)معناها: وإن جعلوا لك فيها رخصة وجوازا. وقوله سبحانه: “ يستفتونك’’[7] معناها يسألونك سؤال تعلم[8].

فالفتوى، بالمعنى اللغوي، هي الإبانة عن الأمر، وتبيين المشكل والمبهم، كقوله سبحانه وتعالى: “ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي[9]’’.

        بالمعنى الاصطلاحي

 أما “ الفتوى’’ في الاصطلاح الفقهي، فقد عرّفها العلماء بتعريفات عديدة: فقالوا بأنها الإخبار عن حكم الشّرع لا على وجه الإلزام، وقيل بأنها الإخبار بالحكم الشّرعي قي قضية من القضايا جوابا عن سؤال سائل من غير إلزام[10] . فالمفتي مخبر، لا ملزم، وبهذا خرج حكم الحاكم الذي يلزم غيره برأيه، خلافا للمفتي.

فالفتوى، إذن، لا تتعدّى أن تكون إخبارا بحكم الله عن دليل لمن سأل عنه. وذلك لمجرد بيان الحكم، وليس فيها إلزام بهذا الحكم. والفتوى، التي لها من التقدير والتبجيل عند المسلمين، تقوم بمهمة تأسيس وتغيير وتعديل العقائد والمعارف[11].

وقد عرفها ابن رشد بقوله: “ إظهار الأحكام الشرعية بالانتزاع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس[12].’’

وعلى كل، فالفتيا، بالمعنى الاصطلاحي أخص من الفتيا بمعناها القرآني.

وتجب الإشارة هنا إلى أن الفتوى تختلف عن القضاء. الفتوى هي بيان الحكم الشّرعي دون الإلزام به، أما القضاء فهو بيان الحكم الشّرعي مع الإلزام به.

ونشير إلى أن مادة “ الفتيا ’’ وردت في القرآن في تسعة مواضع. يقول الله تعالى:’’ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن’’[13]

، ويقول عز وجل:’’ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة’’[14]، أي يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة، أي فيما من لا ولد له ولا والد، ويقول تعالى:’’يأيها الملأ أفتوني في رؤياي:’’[15] ،  أي بيّنوا لي علما أستفيد منه، وقوله: “يوسف أيها الصدّيق أفتنا …[16]’’ ، وقوله تعالى: “قضي الأمر الذي فيه تستفتيان’’ [17] ، وقوله تعالى: “فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا …’’ [18] ، وقوله تعالى: “قالت يأيها الملأ أفتوني’’ [19] ، أي أشيروا علي ّ في أمري، وقوله تعالى: :’’فاستفتهم أهم أشد خلقا’’ [20] ، وقوله تعالى: :’’فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون’’ [21].

والقرآن الكريم استعمل الفتيا بدلالة أوسع من بيان الحكم الشّرعي. فالفتيا في القرآن تعني: البيان، في نازلة، عن حكم غير معلوم يحتاج لرأي. وهكذا طلبت بلقيس المشورة والفتوى من قومها حين جاءها خطاب سليمان. كما جاءت الفتوى، في سورة الصافات، بمعنى طلب الجواب عن سؤال، لا من أجل المعرفة. كما دخل تفسير الرؤيا في معنى الفتيا كما في قصة يوسف.

المبحث الثاني: التطور التاريخي للفتوى

تاريخيا، بدأت الفتوى بعد وفاة الرسول ﷺ عن طريق أصحابه، وذلك قبل أن ينتشر فقه الصّحابة. وهكذا تصدّر عبد الله بن عباس في مكة، وفي العراق جاء فقه عبد الله بن مسعود، بينما تفقّه أهل المدينة عن طريق أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر. وقد بدأ عصر تدوين الفقه بعد انتهاء عصر الصّحابة والتابعين، ومعه استقرّت مذاهب الفقه الثمانية، أربعة من السّنّة، وأربعة من الشّيعة [22].

فقد تولّى الله تعالى الإفتاء بنفسه [23]، “ كما تولّى النبيّ الإجابة على المستفتين، كما سيفعل الصّحابة، رضوان الله عليهم، بعد التحاقه بالرفيق الأعلى. فكان المفتي مخبرا وموقّعا عن الله تعالى وقائما مقام النبي ﷺ. وبذلك شكّل الإفتاء مفصلا مهمّا في حياة المسلمين[24].

أ الفتوى في عهد النبي محمد

كان رسول الله ﷺ، في ذلك العصر، هو المفتي والموقّع عن الله تعالى، فقد كان يبلّغ الأحكام ويفسّر القرآن، ويربّي الناس، ويقي أصحابه فيما يعرض عليهم من نوازل في دنياهم ومعاملاتهم. وكان، ﷺ، يعلّم الناس أمور دينهم، ويبلّغهم شرع ربهم، ويجيبهم على كل تساؤلاتهم واستفساراتهم. يبادر بالفتوى إن كان قد نزل عليه وحي في المسألة، وإلا انتظر الوحي ليبيّن حكم الواقعة التي استفتي فيها. فكان، إذن، بحق، أول من تبوأ منصب الإفتاء حين أفتى الناس، وأجاب عن أسئلة السائلين وأفتاهم بقوله وفعله وتقريره وإشارته. وكانت فتاواه، ﷺ، إخبارا عن حكم الله، وتبليغا لوحيه. وكانت فتاواه، عليه السلام، جوامع الأحكام، شملت كافة أبواب الشريعة ومختلف مناحي الحياة، وأصبحت أحكاما عامة يلتزم بها الناس إلى أن يشاء الله [25][at1] [at2] .

وكان ﷺ في فتاواه يترك المستفتي يقول ما عنده ولا يعاجله بالجواب، ويستفصل منه إذا كان الحكم يحتاج إلى استفصال، ثم يجيب[26]. كما كان النبي ﷺ يفصّل في الفتوى ويذكر الأحوال، إذا كانت مسألة المستفتي تحتاج إلى ذلك[27].

ولتوصيل المعنى لكل السّائلين، اتّبع النبيّ، ﷺ، طرقا متعددة. وهكذا أأفتى بالفعل. فقد صلّى رسول الله ﷺ، وأمر الناس أن يصلّوا ويفعلوا مثله. فالصلاة تحتاج، في تعلّمها، إلى درس عملي. قال عليه السلام: “ صلّوا كما رأيتموني أصلّي’’[28]. كذلك كان جوابه، ﷺ، عمليا حينما استفتاه عمّار بن ياسر عن التيمّم، فقال له:(إنما كان يكفيك هكذا)وضرب النّبي بكفّيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفّيه  .[29] كما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن المصطفى ﷺ قال:’’ يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج، قيل: وما الهرج يا رسول الله؟ فقال: هكذا بيده، فحرّفها كأنه يريد القتل[30].

كما من هدي النبي ﷺ في الفتوى أنه يبيّن الحكم بالقياس عندما أفتى بقضاء رمضان قياسا على قضاء الدّين[31] . ومن هدي النبي في الفتوى تصديق المستفتي وعدم طلب بيّنة منه على ما يقول. فحينما أخبر سلمة بن صخر أنه لا يستطيع الكفّارة، صدّقه الرسول الكريم، فالبيّنة لا يطلبها المفتي[32].

أما الفتوى بالإشارة، فقد كانت كذلك وسيلة يلجأ إليها في توصيل المعنى وتوضيحه إلى السّائل، في حالة معيّنة. فقد يكون المستفتي أخرسا أو في مكان لا يستطيع السّماع فيه. وقد يكون المفتي كذلك مضطرا إلى الجواب بالإشارة. وقد اتّبع النبي ﷺ هذه الوسيلة بالإشارة. فقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي عليه السلام سأله سائل وهو في حجّته فقال: ذبحت قبل أن أرمي، فأومأ بيده وقال: “ لا حرج ’’ حلقت قبل أن أذبح، فأومأ بيده، وقال: “ لا حرج’ ‘ [33].

وهذه الوسائل كلها أخذت من أفعال الرسول الكريم الذي أفتى وبيّن بالقول والفعل والإقرار والإشارة.

ب الفتوى في عهد الصحابة الكرام

نهض بشرف الإفتاء، بعد الرسول ﷺ، جماعة من فقهاء الصّحابة، رضوان الله عليهم، الذين أخذوا الدّين من منبعه الصّافي. وأفتوا الناس في نوازلهم، حسبما سمعوا من النبي الكريم، لا يحيدون عنه قيد أنملة، بل كانوا يفتون ورسول الله حيّ بين أظهرهم[34].  بمميزات لم تتوفر في غيرهم كطول مصاحبة النبي ﷺ، وكثرة مجالسته، والأخذ منه، ومعاصرتهم التنزيل، ومعرفة أسباب النزول ومقاصد الشرع[35].

وكان الفقه في زمنهم مميّزا لأنهم أخذوا وتعلّموا وتفقّهوا من العلم النبوي.

1  –منهجية الصحابة في الفتوى

سار الصحابة سير النبي ﷺ ونهجوا نهجه في مجال الاجتهاد والنظر الشّرعي للأحداث التي جرت ووقعت أمامهم. ويعتبر اجتهادهم بمثابة تطبيق عملي لما تعلّموه في حياة النبي عليه السلام. وقد بدأ اجتهادهم، مباشرة بعد وفاة محمد، ابتداء بيوم السقيفة.

اختص بعض الصّحابة، وليس كلهم، بالفقه، وكانوا، نظرا لملازمتهم للرسول الكريم، أئمّة وأعلاما في الدين. كما أجمع جماهير أهل السنة والجماعة على أنهم أئمة في تعلّم الأحكام وفهمها، وأنهم المرجع الأساسي للمسلمين للتعليم والفتوى. لذلك اهتمّ بهم الخلفاء الراشدون، وقدّموهم لإمامة الأمّة، لتميّزهم. وردت فيهم أحاديث نبوية تدلّ على مكانتهم العلمية.

ويمكن أن نرسم معالم المنهج الاجتهادي الذي سار عليه الصحابة فيما يلي:

2  –اعتمادهم الكتاب والسّنّة مستندا ودليلا للفتوى

كان الصّحابة يأخذون الحكم الشّرعي للمسألة من ظاهر النص بتطبيقهم النصوص على الحوادث المندرجة تحتها.  كان الصّحابة لا يفتون ولا يجتهدون في مسألة فيها نص، بل كانوا يقفون عند النص لا يتجاوزونه. كان أبو بكر وعمر يجمع علماء الصّحابة الماهرين في النوازل ويستشيرهم. فقد استفتى رجل عمر بن الخطاب في أمر قضى به الرسول الكريم، فقال له:’’ لم تستفتي في شيء قد أفتى فيه رسول الله ﷺ’’؟  [36].

وقد كانت عبارة “ لا أدري’’ شعارهم الثّابت، درّبوا أنفسهم عليها، وعلّموها لمن سيأتي بعدهم، دون الشعور بأي نقص. كما أحجموا عن الخوض فيما لا يعلمون وحذّروا من القول على الله بلا علم. يدل على ذلك ما فعله أبو بكر الصديق عندما سئل عن ميراث الجدّة وما قام به عمر عندما أخبر أن الوباء قد وقع في الشام التي خرج إليها. فاستشارا الصحابة [37].

 -3تثبّتهم في فهم السؤال

كان الصحابي لا يفتي في مسألة حتى يفهم جيدا قول السائل ومراده. ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال:’’ إذا سأل سائل فليعقل، وإذا سئل المسؤول فليتثبت’’[38].

4  – اعتبار مبدأ الاحتياط في الفتوى والعمل به.

ومن أشهر فقهاء الصّحابة الذين كانت لهم اجتهادات فقهية، في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، نذكر:

أبا بكر الصديقالذيكان من أعلم الصّحابة وأفقههم، وأول من اجتمعت الأمّة على خلافته- عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، عليّا بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، عبد الله بن مسعود، أبا موسى الأشعري، أبيّ بن كعب، معاذ بن جبل، عمّار، حذيفة، زيدا بن ثابت، أبا الدّرداء، سلمان …

وقد جمع الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون(أخ الشيخ تقي الدين عجلون)كل الصّحابة الذين أفتوا في حياة محمد ﷺ في أبيات من الشعر قال فيها:

لقد كان يفتي في زمان نبيّنا          …          معاذ وعمّار وزيد بن ثابت

ومنهم أبو موسى وسلمان حبرهم    …         وأفتى بمرآه أبو بكر الرضي

مع الخلفاء الراشدين أئمة         …           أبيّ ابن مسعود وعوف حذيفة

كذاك أبو الدرداء وهو تتمة       …          وصدّقه فيها وتلك مزية[39]

كانت اجتهادات الصحابة، في حياة الرسول ﷺ، نوعا من التمرين العملي ومجالا لإبراز قدراتهم التشريعية لحل مشاكل المسلمين. وقد رخّص لهم النبيّ الكريم ذلك مادام الوحي ينزل، يقرّ الصواب، ويرفض الخطأ. وبهذه الطريقة، يتعلّم المسلمون طرق التفكير المنطقي السّليم.  وبعد التحاق النبي محمد ﷺ بالرفيق الأعلى، وانقطاع الوحي، واكتمال التشريع وإرساء أسسه، ترك تطبيق هذه الأسس لاجتهاد أولي الرأي في كل جيل بعد جيل الصحابة[40].

وهكذا، أصدر عمر الفاروق فتوى خاصة بالمؤلفة قلوبهم الذي استمر عطاؤهم حتى وفاة الرسول الكريم، طبقا لما شرعه الله تعالى في توزيع الزكاة على الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم[41]. فقد استوجبت الظروف فرض نصيب لهم من الصدقات لتأليف قلوبهم وتقوية صفوف المسلمين.

 وفي عهد أبي بكر الصديق، رأى عمر أن الإسلام أصبح قويا عزيزا، ولم يعد يحتاج إلى بذل الأموال وإعطاء الصدقات لتأليف قلوب الناس حوله. فوافق الخليفة أبو بكر والصحابة معه على رأي عمر.

وللإشارة، فإن عمر لم يلغ الآية المتعلقة بالمؤلفة قلوبهم ولم ينسخها، وإنما “ جمّد’’ سهم المستفيدين لعدم وجودهم. وفي حالة وجود المؤلفة قلوبهم في أي عصر من العصور، يخرج السّهم ويعطى للمستحقين[42].

ت   –الفتوى في عهد التابعين

بعد عهد الصّحابة الكرام، ظهر عصر جديد من العلماء سمّوا بالتابعين لا تّباعهم الصّحابة ومنهجهم واستنباطاتهم واجتهاداتهم، وذلك باعتمادهم على الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس. وقد أثنى القرآن الكريم عليهم بقوله:’’ والسّابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم’’ [43]. هؤلاء المسلمون لم يلقوا النبي ﷺ، بل لقوا الصّحابة أو بعضهم.

يطلق عصر التابعين على العصر الأموي الذي يأتي مباشرة بعد عصر الخلفاء الراشدين، وقبل عصر المذاهب السّنّية الأربعة. والتابعون على قسمين: – كبار التابعين وهم الذين رووا أكثر أحاديثهم عن الصّحابة، – وصغار التابعين وهم الذين رووا أكثر أحاديثهم عن إخوانهم التابعين [44].

1  –مميزات عصر التابعين

التوسّع الكبير، الذي عرفته رقعة الدولة الإسلامية في عصر التابعين، بسبب امتداد الفتوحات الإسلامية في الشام، ومصر، والعراق، وفارس، واكبه ظهور مستجدّات وقضايا لم تكن معروفة من قبل. وهذا أدّى إلى ظهور اجتهادات وآراء شملت كل أبواب الفقه.

تغيرت طبيعة الناس في الدولة الإسلامية على الصعيد الاجتماعي، والثقافي، والأخلاقي، والسياسي، والاقتصادي. وقد نتج عن هذه التغيرات ظهور نوازل جديدة وحاجات لم تكن معروفة أو موجودة من قبل. ووجد علماء التابعين أنفسهم مطالبين بإعطاء رأيهم في كل هذه المستجدات، دون أن يحيدوا عن طريق أساتذتهم الصّحابة في فتاويهم، من حيث الاعتماد على الكتاب والسّنّة، ثم الاجتهاد في معرفة الأحكام واستنباطها، لتحقيق المصلحة العامة [45]. وإليكم نماذج لإفتاء في عهد التابعين.

2  نموذج الإفتاء في عهد التابعين

اجتمعت مجموعة من العبيد بباب دار الإمام الحسن البصري، طالبين منه جعل موضوع خطبة الجمعة:’’ تحرير العبيد’’ وإظهار فضل ذلك وثوابه على المعتقين. وعدهم سيّد التابعين بالخطبة في الناس وحثّهم على التحرير. فانصرف العبيد فرحين، وكل منهم يمنّي نفسه بالحرية. وتمرّ جمعات ولم يتحدث الإمام على تحرير العبيد الذين ظنوا أن البصري قد نسيهم كما نسيهم الناس. وفي إحدى الجمع، وقد ذهب العبيد إلى الصلاة، ولا أمل في نفوسهم، إذ بالإمام، الذي تعلّم على أيدي الصّحابة، يخطب خطبة مؤثّرة جعلت الناس يسرعون إلى تحرير عبيدهم. واجتمع العبيد مرة أخرى أمام بابه يشكرونه مرة، ويعاتبونه أخرى على التأخير قرابة ثلاثة أشهر. فأجابهم الإمام، قبل أن ينصرف، أنه لم يكن يملك عبدا. فلما اشترى العبد، ومكث عنده حتى امتلأت نفسه به، أعتقه. فلما خطب الناس، بعد العتق، كان كلامه عن فعل وسلوك، لا عن قول وموعظة، وكان لسان حاله خير من لسان مقاله [46].

الفصل الثاني: الدور الإصلاحي للفتوى

تهدف الفتوى، في الأساس، إلى إصلاح المجتمع وإفادة أفراده وجماعاته، وترسم القواعد الصحيحة لسلوكيات الناس وتصرفاتهم. في الإفتاء حلول لمشكلات المجتمع، وتهذيب لحياة أفراده الشخصية والمجتمعية، وجواب لا نشغالاته، ودروس وعبر تسهم في إصلاحه وتغييره. ومع وجود الفتوى الجماعية عن طريق المجامع الفقهية والهيئات الإفتائية، تصبح حاجة المجتمع إلى الفتوى أكثر إلحاحا لتعميق القيم الإصلاحية التربوية والأخلاقية والإيمانية والعبادية والمعاملاتية [47]. فالفتوى تهدف إلى إصلاح المجتمع أخلاقيا، واجتماعيا، وروحيا، وماليا، واقتصاديا..

المبحث الأول: الفتوى والإصلاح التربوي

تهدف الفتوى، في الأساس، إلى الإجابة على تساؤلات المجتمع لإفادته وإصلاحه ورفع الحرج عنه. ونظرا لوظيفتها التربوية والشرعية، فهي تتصل اتصالا مباشرا بشؤون أفراد المجتمع وما يحلّ بهم من نوازل ووقائع.

الفتوى تقاوم الانحراف السلوكي، والفكري، والبدع والضلالات، كما تعمل على تبديل ودفع ما فسد من الأحوال والأوضاع، واستبدالها بأحوال وأوضاع ونوازل أخرى، أنفع وأصلح للبلاد، والعباد، وللمجتمع، وفق مقتضيات أحكام الشريعة الإسلامية [48].

الفتوى تهيّج النفوس على فعل الخيرات وامتثال الأوامر للفوز برضا الله تعالى: “ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما’’ [49]. والفتوى الشّرعية، بعلاقتها الوثيقة مع المجتمع من حيث مضمونها القيمي الاجتماعي، تعين المجتمع على معرفة القيم التربوية والأخلاقية والإيمانية، والعبادية، والمعاملاتية التي دعا إليها الإسلام [50].فلا عجب، إذن، أن يكون الإسلام مثاليا في تشريعاته وتنظيماته، وأن يكون مجتمع المنتمين إليه مجتمعا متمتّعا بالسّلم، والأمن، والرحمة، والتلاحم، والطمأنينة، والعدل، والأخوة، والمساواة بين أفراده، مجتمعا نظيفا في فكره، سليما من الآفات، بعيدا عن المنكرات. فإن وقع شيء خارج عن ذلك، فهو شذوذ عن الأصل. وهذا لا يتأتّى إلا إذا كانت المسؤولية مشتركة بين الجميع: حكّاما ومحكومين

تساهم الفتوى، عن طريق التربية، في إصلاح المجتمع وانتظام معايشه. وجوهر ما يدعو إليه القرآن الكريم هو تربية الناس.

أ الجانب التربوي الإصلاحي في القرآن الكريم

القرآن الكريم، بأكمله، يحثّ على التقوى، ومراقبة الله تعالى في السّرّ والعلن، وتقوية الضمير، والوازع الديني عند المسلم. وآيات القرآن الكريم التي تتضمن الفتوى والأسئلة، والتي تأتي بصيغ مختلفة مثل: “ يستفتونك’’، “ يسألونك’’، تؤكّد باستمرار على ربط التشريع بالتربية والأخلاق.

ومع ذلك، ظلت الفتوى عند العلماء المسلمين خالية من الجانب الروحي إلا ما ندر. بحيث كان الجانب الفقهي هو الطاغي في فتاواهم، وكان الاستناد على التربية في الفتوى، ضعيفا إن لم يكن مغيّبا. وكان الفقهاء المفتون لا يراعون، عند صدورهم الفتاوى، الجانب التربوي، ولا يخاطبون في أجوبتهم، المستفتي بخطاب يعزّز لديه الجانب السلوكي والأخلاقي [51].

المتأمل في آيات الأحكام التي تأتي بصيغة)يسألونك)أو(يستفتونك(، أي المتضمّنة للفتوى والأسئلة، يلاحظ ربط التشريع بالتربية والأخلاق. وهذه الأسئلة أو الاستفتاءات، بغضّ النظر عن طبيعتها، عقدية كانت، أم اجتماعية، أم سياسية … تنتهي دائما بالإشارة إلى أهمّية العمل الصالح.

جاءت صيغة (يستفتونك )في القرآن الكريم مرتين. في المرة الأولى يقول الله تعالى: “ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ’’ [52]. هذه الآية تتعلق بحقوق النساء المالية، والزوجية، وبأحكام معاملة يتامى النساء … وفي آخر هذه الآية حثّ الله تعالى المؤمنين على فعل الخيرات لأنه تعالى سيجزيهم عليه أوفى الجزاء. وهنا ربطت الفتوى بالعمل الصالح الخيّر. 

وفي الآية الثانية بيّن الله سبحانه حكم الكلالة، ووضّح الشرائع، وأخبرهم بأنه سبحانه وتعالى عالم بعواقب الأمور، وما فيها من الخير لعباده، لكيلا يضلوا عن الحق بعد البيان أبدا [53]. يقول سبحانه، عز وجلّ: “ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذّكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم [54]

في الآيتين، ربط واضح للفتوى بالعمل الصالح، وضرورة الاهتداء والتمسك بالهدى والصواب.

أما صيغة)يسألونك)أو(ويسألونك)  فقد وردت عدة مرات في القرآن الكريم(خمسة عشر مرة )متبوعة ب)”قل’’ ومرة واحدة ب “فقل .)وكلها إجابات تبيّن الحكم الفقهي، وترتبط ارتباطا وثيقا بالهدف التربوي من الفتوى والسؤال. ففي قوله تعالى: “ يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون’’[55]. السؤال الذي طرحه بعض المسلمين على النبي ﷺ كان عن اختلاف الأهلّة والحكمة من ذلك. فكان الجواب بأنها معالم يوقّت الناس بها أمور دينهم ودنياهم من عبادات وزروع وعقود … [56]. ومع هذا، ذكّرت الآية بتقوى الله مرّتين، وبأن التقوى، والبر، وترك المنهيات هي سبب الفلاح. وعند السؤال عن الإنفاق، قال تعالى: “ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم’’[57]. كان السؤال، في هذه الآية، عن الإنفاق وكيفيته وعن المستفيدين منه. فكان الجواب على الوالدين، والأقربين، واليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل، وأن أيّ معروف، وأيّة نفقة تنفق في وجوه البر والإحسان والطاعة يعلم الله تعالى بها ويجزي عليها أوفر الجزاء. هنا كذلك يظهر، بقوة، الجانب التربوي للفتوى.

ويقول الله تبارك وتعالى في نفس السورة: “ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون’’[58]. السؤال هنا عن أمر سياسي يتعلق بالقتال والحرب في الأشهر الحرام، فجاء الجواب ليبيّن بأن القتال في الشهر الحرام، فعلا، إثم كبير، وجرم عظيم … ولكن الكفر بالله، والصّدّ عن سبيله، وفتنة المسلمين، وإخراجهم من مكة … أكبر من القتال في الشهر الحرام.

ثم جاء الحديث عن الأكل والشرب، وما يحلّ منه وما يحرم، فكانت الإجابة من القرآن الكريم واضحة ومؤكّدة على الجانب التربوي والتّزكوي للفتوى “ القرآنية’’ [59]. قال الله تعالى: “ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون.’’[60] هنا سئل الرسول ﷺ عن حكم شرب الخمر وبيعها، وعن حكم لعب الميسر، فكان الجواب حول منافعهما الدنيوية التي لا توازي مفاسدهما الواضحة للعقل والدين. فالدين يراعي دائما مصالح الناس الدنيوية والأخروية، الجسدية والروحية.

ثم ينتقل سؤال الصّحابة إلى معرفة ما الذي أحلّ لهم من المطاعم بعد أن عرفوا ما حرّم منها. فيجيبهم الرسول الكريم ﷺ بأن الله حلّل لهم الطّيبات من الأطعمة التي تستلذّها النفوس وتستطيبها، وأحلّ لهم كذلك صيد ما علموه من الجوارح التي درّبوها وعوّدوها على الصّيد. فالله تعالى هو الذي منحهم العلم الذي عن طريقه علّموا الغير وسخّروه لمنفعتهم ومصلحتهم. قال تعالى في هذا الصّدد: “ يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب’’ [61]. في آخر هذه الآية يأمر الله تعالى عباده بتقواه وعدم مخالفة أوامره بالأكل من المحرّمات، وأنه سيحاسبهم على أعمالهم كلها.

أما عن اليتيم، فقد جاء في قوله تعالى: “ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم’’ [62]. هنا وكّل الله تعالى معاملة اليتامى إلى ضمائر الناس وإلى حسن نواياهم، وأنه تعالى يراقب أعمالهم في السّرّ والعلن.

ثم يأتي السؤال عن الوطء أثناء الحيض ثم الطهارة، فقال تعالى: “ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين’’ [63] . سأل الصّحابة النبي ﷺ عن حكم مباشرة النساء في الحيض، لأن قوة إيمانهم كانت تدفعهم ليعرفوا حكم الإسلام في شؤونهم الخاصة والعامة. فأجابهم عليه الصلاة والسلام، معلّما وموجّها، بأن الحيض أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسيما.

ثم طرح السؤال عن الزمان وعن وقت قيام الساعة، فقال تعالى: “ يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون[64]’’. كان الجواب عن الساعة التي تنتهي بها هذه الدنيا هو أن علمها يردّ إلى الله تعالى وحده. وتنتهي فجأة ودون سابق إنذار، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تلك الحقيقة.

عن الغنائم بعد الحرب، يقول السؤال: “ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [65].’’ الجانب التربوي بارز جدّا في هذه الآية التي نزلت، في بدر، حين اختلف المسلمون حول الطريقة التي تقسم بها الغنائم. فانتزعها الله تعالى من أيديهم وجعلها بيد الرسول ليقسمها بينهم. ثم أمرهم بتقوى الله وطاعته، وإصلاح ذات البين بينهم، والابتعاد عن التخاصم والتظالم والتعنيف [66].

ب الجانب التربوي الإصلاحي في الفتوى النبوية

سيرة النّبي ﷺ هي مواقف وفقه في معاملة النفوس، وتربيتها، وإصلاح وعلاج أخطائها. إنها مدرسة نبوية متكاملة.

ومن أبرز الوسائل التربوية التي لجأ إليها الرسول الكريم، التعليق على كل الأحداث التي يمكن أن تعطي معلومة دينية، أو قيمة خلقية، أو سلوكا طيبا، أو إرشادا، واستثمارها [67]. وسنستعرض فقط بعض الأحاديث التي تجيب على أسئلة السائلين.

– النبي ﷺ، في فتاواه، يبيّن المخرج الشّرعي للمستفتي، ويعطي الجواب العملي. فقد استفتاه عمار بن ياسر عن التيمم. فقال له النبي ﷺ(إنما كان يكفيك هكذا.)فضرب النبيّ بكفّيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفّيه [68].  وحينما سئل عن مواقيت الصلاة، صلّى أول الوقت في اليوم الأول، وصلّى آخر الوقت في اليوم الثاني، ثم قال) الوقت بين هذين)[69]. طريقة تعليمية نبوية بليغة لا يتطرق فيها للسائل وهم.

– ومن هدي النبي ﷺ كذلك في فتواه أنه يجيب المستفتي بأكثر مما سأل عنه، إذا كانت تدعو لذلك حاجة أو مصلحة. فعن ابن عباس قال: رفعت امرأة صبيا لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حجّ؟ قال:)نعم ولك أجر)[70].

– كذلك أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى سلوك الورع وترك المشكوك فيه، في حالة عدم الطمأنينة لقول المفتي. فعن أبي ثعلبة الخشني، رضي الله عنه، قال:(قلت يا رسول الله أخبرني بما يحلّ لي ويحرّم عليّ، قال النبي ﷺ: البرّ ما سكنت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النّفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون)[71].

– كذلك علّمنا رسول الله ﷺ أن التربية والتعليم تكونا في كل مكان، في البيت والسوق، وعند العائلة، وليس فقط داخل المسجد أو داخل الفصل. عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: “ بينما أنا والنبي خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدّة المسجد، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال النبي ﷺ: “ ما أعددت لها؟ ’’ ، فكأنّ الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام  ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحبّ الله ورسوله، قال: “أنت مع من أحببت’’ [72]. فالنبيّ أجابه وأفاده وعلّمه خارج المسجد، ولم ينكر عنه سؤاله.

أمّتنا تهتمّ بكل ما يصدر عن نبيّنا عليه الصلاة والسلام من أقوال وأفعال وتقريرات، فسنّته هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.

المبحث الثاني: الفتوى والإصلاح السياسي

الإصلاح وظيفة العلماء وشأنهم الدائم. والأمّة التي يتخلّى علماؤها عنه، أمّة ميّتة لا تقوى على العطاء [73]. ولما ظهرت ملامح الفساد، هبّ العلماء ينصحون الأمّة، ويوجّهونها عن طريق الفتوى، أو الرسائل، أو التآليف التوجيهية ..,

أ النوازل والفتاوى الفقهية ودورها في إصلاح المجتمع

تبرّم الفقهاء المفتون من الفساد الذي كان ينتشر كل يوم داخل المجتمع المغربي. فجاءت الفتاوى لتهتمّ بجمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وانتقاد مظاهر الانحلال الأخلاقي، كما أنكرت هذه الرسائل تقصير الحكّام في حفظ الثغور، وإهمال تنظيم الجيش وتجهيزه، داعية في نفس الوقت الرعايا إلى وجوب طاعة الحكّام في حدود أوامر الشّرع ونواهيه [74].

1تحديد مفهوم مصطلح “ السياسة’’

’’لفظ “ السياسة’’ في لغة العرب يعني الإصلاح والاستصلاح بواسطة الإرشاد والتوجيه والتأديب والأمر والنهي. إنه محمّل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين. و’’ السياسة’’ هي القيام على الشّيء بما يصلحه، وساس الدّواب أي قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيّته. والسياسة والإصلاح لا ينفصمان عن بعضهما.

أما شرعا، فلم يرد لفظ “ السياسة ’’ ولا شيء من مادّته في القرآن الكريم، لكن جاء الحديث عن معاني اللفظ كالصّلاح، والإصلاح، والأمر، والنهي، والحكم، وغير ذلك من المعاني. لكن جاء في السّنّة قول النبي محمد ﷺ، عن أبي هريرة: “ كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ …’’. وقوله عليه السلام: “ تسوسهم الأنبياء’’ بمعنى تتولّى أمورهم تماما كما يفعل الأمراء والرعاة برعاياهم.

والسياسة في الشّريعة، كما يتبيّن، استخدمت بمعناها اللغوي، أي القيام، من قبل الولاة، على شأن الرعية بما يصلحها من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، ووضع التنظيمات والترتيبات الإدارية، وجلب المنافع، ودفع المضار والشرور … وكل هذا لمصلحة الرعايا [75].

فالسياسة، حسب التعريف، هي مجموعة إجراءات وأعمال وتصرّفات عملية، تتطلب حكمة وخبرة وقدرة على استغلال الإمكانات المتاحة بطريقة سليمة لتحقيق هدف الإصلاح. يقول ابن جرير الطبري في بيان السّبب الذي من أجله جعل عمر أمر الخلافة في السّتّة الذين اختارهم: “ لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للسّتّة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم.’’[76]

وفي نفس السياق يقول ابن حجر: “ والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمّرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضمّ إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشّرع منها’’[77]. لأجل هذا استخلف عمر معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة [78]. كما نفى عمر، من المدينة إلى البصرة، الشاب الجميل نصر بن الحجَاج لما افتتنت بجماله بعض النساء، تحقيقا لمصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به. ويقال بأن عمر، الذي كان يعسّ بالمدينة، سمع امرأة تتغنّى بأبيات تقول فيها:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها   …  هل من سبيل إلى نصر بن الحجاج

دعا عمر هذا الشاب فوجده فعلا شابّا حسنا، فحلق رأسه، فازداد جمالا، فنفاه [79].  

والأمثلة في تحقيق المصلحة ودفع الظّلم والمضرّة على الرعية كثيرة، من غير، طبعا، مخالفة الشّريعة.              

ودائما رعاية لمصلحة الأمّة وائتلافها واتفاقها، وتجنيبها مضرة الاختلاف والتفرق، جمع الخليفة الراشد الثالث عثمان المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف. كذلك أمر نفس الخليفة، لما ضعفت الأمانة، بإمساك ضوال الإبل، لأن تركها صار مضيعا لها على أصحابها …

ونشير هنا إلى أن السياسة عند الفقهاء تحمل اتجاهين:

+  اتجاه الحنابلة، كابن نجيم، وهو اتجاه موسّع ل’’السياسة’’ يضمّ كل الأفعال التي فيها صلاح للناس، وإن لم يرد فيها وحي ولا تشريع نبوي. وعلى هذا النحو، تكون السياسة، هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، أو لدرء مفسدة يريد تجنّبها، بدون أن يخالف ذلك الشّرع.

+ اتجاه الحنفيّين، كعلاء الدين الطرابلسي، الذي يضيّق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلّظة وكأنها مرادفة للتعزير. لكن السياسة قد تكون بغير التغليظ وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التّخفيف أو الإسقاط. ألم يترك الرسول ﷺ تأديب الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرا لظروف بداوته وجهله؟ ألم ينه عن قطع الأيدي أو إقامة الحدّ في الغزو لمصلحة راجحة وهي حاجة المسلمين إلى المذنب أو خوف لحاقه بالمشركين؟ ألم يتجنّب قتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتّب على ذلك من المفسدة قائلا:’’ لا يتحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه؟ ترك النبي عليه الصلاة والسلام عقاب المنافقين لمصلحة تأليف القلوب ولعدم تنفير الناس من الإسلام، والإسلام ببعد في غربة. [80] وهناك قول آخر لمالك، فيما يتعلّق بترك المنافقين إذ أن الحاكم لا يحكم بعلمه ولو كان يعلم[81].

2حاجتنا إلى السياسة الشّرعية

لابد من الإشارة أولا إلى أن الفتوى، في مجال السياسة الشرعية، تتعلّق، غالبا، بما لم يرد فيه نص خاص، وذلك لتدبير شؤون الرعية، ودفع المظالم، وردع أهل الفساد، والاهتمام بكل ما يحتاج إليه البلاد والعباد.

تعدّ السياسة الشرعية من أبرز الموضوعات التي أولاها علماء الشريعة أهمّية كبيرة، نظرا لدورها الفاعل في بناء الأحكام الشّرعية المختلفة للوقائع والحوادث. وهي باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمّة وتحقيق مصالحها الدينية والدنيوية، من تدبير شؤون الرعية، ودفع مظاليمها، وردع أهل الفساد فيها [82].. قال ابن القيم: “ … وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرّط فيه طائفة فعطّلوا الحدود، وضيّعوا الحقوق، وجرّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها … ’’ [83].

 وتأتي الفتوى السياسية في مقدمة الفتاوى المؤثّرة في المجتمع الإسلامي، قوة وضعفا، لأنها تتدخّل، في العالم الإسلامي، في كل شيء: في المباح والمنكر، في الطب والمحاسبة، في الهندسة والزراعة، في أمور الحكم والمصالح العامة، بل تتدخّل في كل شيء. وتكاد لا تخلو أي دولة إسلامية من جدليّة الإفتاء ومشروعيّة الفتوى. فأصلها قائم، كما يرى الإمام الماوردي في(الأحكام السلطانية)وابن خلدون في(المقدّمة(.

ومع الفتوى السياسة يتداخل الشّرع بالسياسة. وغالبا ما تأتي الفتوى لتتّخذ شكلا من أشكال الصّراع السياسي بين التّكتّلات السياسية المتصارعة. كما أن تراوح الفتوى بين الدين والسياسة وتداخل الشّرع بالسياسة يعدّ من الإشكاليات الهامة، وخصوصا عندما تأتي الفتوى الشّرعية برداء أهداف سياسية تختلف حولها الأطراف [84]. فالنوازل السياسية تعدّ من أعقد القضايا التي تواجه المجتمع والفقهاء المعاصرين.

تحتاج الفتاوى السياسية، أو فتاوى الأمّة، إلى مواصفات وضوابط وشروط لكل من يريد أن يتصدّى لها. فالقائمون بهذه الفتاوى موقّعون عن الله تعالى. إنها تنعكس على حاضر الأمّة ومستقبلها.

الفقه السياسي الإسلامي لم يعرف إلا تطوّرا ضئيلا، مقارنة مع باقي أبواب الفقه، بل يكاد يكون قد حافظ، فقط، على ما أنتجه فقهاء السياسة الشرعية في القرن الرابع الهجري. ومن تمّ، لم يواصل الفقهاء تنمية البحث في شؤون المواطنة وحقوق الرعية، والأمن السياسي والاجتماعي، ونصيحة الحكّام ومحاسبتهم، وأحكام المعارضة السياسية … [85]، ولم يتنا ولوا جوهر القضايا السياسية في اجتهاداتهم الدينية الباهتة [86].

ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى أهمّية الفتوى الجماعية التي أحياها العالم الإسلامي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين بإنشاء المجامع الفقهية المستقلة، رسمية كانت أم شعبية، التي ستعني بالقضايا السياسية العامّة ذات الأثر على قضايا الأمّة كالنظام الشّوري ومشاركة المرأة … [87].

ب الفكر السياسي الإصلاحي لدى علماء المسلمين

ألّف فقهاء وعلماء مسلمون مصلحون الكثير من المؤلّفات التي تتحدّث عن كيفية إصلاح المجتمعات، ودفع المضار عنها، وعن سياسات الدول وإدارتها، تحقيقا لمقاصد السياسة الشّرعية.

ويبدو أن عددا من الفقهاء، في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، انشغلوا بتقديم أفكار إصلاحية تقوم بإصلاح الحاكمين والمحكومين أو الراعي والرعية معا. ومن بين هذه المؤلفات التي تمثّل ركائز إصلاحية في زمنهم نذكر: “ السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية “ لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية(ت . 728 ه(، وكتاب “معيد النعم ومبيد النقم ’’لا بن السبكي(ت. 771 ه (، وكتاب “المقدمة’’ للمؤرخ ولي الدين ابن خلدون(ت. 806 ه(. ثم وضعت مؤلّفات إصلاحية أخرى بعدهم، في القرنين الخامس والسادس الهجريّين، نذكر منها: “ الأحكام السلطانية’’ لأبي الحسن علي بن محمد البصري البغدادي المعروف بالماوردي(ت. 545 ه  )”غياث الأمم في التياث الظَّلَم ’’ للجويني عبد الملك بن عبد الله بن يوسف )478 ه(.

المبحث الثالث: الفتوى والإصلاح التربوي: نوازل الونشريسي نموذجا

لقد رغّب الفقه الإسلامي في التعلّم والتعليم وحثّ على إلزاميته، باعتباره مجالا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمجتمع. كما تناولت بعض النوازل الفقهية المسجد والمدرسة، باعتبارهما من أهمّ المؤسّسات التعليمية والتربوية في العصر الوسيط، وأكّدت على نظافة وعدم اكتظاظ المساجد بالأطفال لتقوم بوظيفتها على أكمل وجه، كما بيّن ذلك الفقيه محمد بن سحنون في أحد أجوبته [88]. كما وجدت نوازل تتحدّث عن شروط استغلال المؤسسات التعليمية [89].

كذلك اعتبرت الأسرة، ومنذ القديم، طرفا رئيسيّا للنهوض بالعملية التعليميّة بالغرب الإسلامي الوسيط، كاستئجار معلّم للصّبيان، خاصة في المراحل الأولى من مراحل التعليم.

ولقد شهد العصر المريني، العصر الذي عاش فيه الفقيه الونشريسي، اهتماما بالغا في بناء وتشييد المدارس، كمدرسة الحلفاويّين، ومدرسة الصّفّارين، ومدرسة دار المخزن، ومدرسة الصّهريج ومدرسة العطّارين … وقد أشار العلاّمة الفقيه المالكي النّوازلي أبو العباس الونشريسي) ت. 914 ([90] الذي كرّس أغلى عمره مدرّسا، إلى هذه المدارس في مواضع عديدة في كتابه ’ المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقيا والأندلس والمغرب’‘[91] وأورد مجموعة من الفتاوى جوابا لابن سحنون حول تعليم الصغار، ذكورا كانوا أم إناثا، وتشجيع أوليائهم ولو كانوا معسورين على تعليم أبنائهم [92].

لم يخصّص الونشريسي، في(معياره(، بابا معيّنا لنوازل التربية والتعليم، لكن تفرّقت هذه الفتاوى التربوية، التي تربو على مائة وخمسين نازلة فيها إشارة إلى قضية من قضايا التعليم، بين باقي الأبواب الفقهية في ثنايا الكتاب [93].

أ  –نوازل مرتبطة بالمعلّم

المعلّم هو أحد المكوّنات الثلاث للعملية التربوية والدّيداكتيكية. ويوجد في المعيار إحدى وأربعين نازلة تضمّنت الحديث عن الكفايات، والمؤهلات، والحقوق، والشروط التي يجب أن تتوفّر في المدرّس …

ولقد حدّد الفقه الإسلامي، في ذلك، مجموعة من الصّفات التي ينبغي أن يتحلّى بها المعلّم لتعليم وتربية الأطفال. ومنها أن يكون عفيفا، طاهر النّفس، حسن السّمعة، متزوّجا[94]. كما تطرّقت النوازل إلى معالجة بعض الأخطاء التأديبية للمعلّم أثناء ممارسته لعمله، والتي أدّت إلى عاهات معيّنة. فاجتهد الفقهاء لبيان الحكم الشرعي فيها [95]، لأنّ الاتجاه العام في قضايا التّأديب كان هو الابتعاد عن العنف والشّدّة، والميل نحو الرّفق واللّين.

سئل القاضي أبو عثمان سيدي سعيد العقباني عن أخذ الأجرة على تعليم العلم. فأجاب بأن الإمام مالك كره ذلك، في المدونة. لكن حرمان العلماء من الأجرة، وما يترتّب عنه من ضعف في الأرزاق وانشغال بطلب المعيشة عن التعليم … يؤدّي إلى ضياع العلم [96]. كما أفتى القابسي بأن المعلّم ينبغي أن يكون مهيبا، بدون عنف، ولا غضب، ولا بساطة مفرطة [97].

كما سئل عن المعلّم يريد أن يجعل غيره في موضعه. فأجاب بأنه ليس له أن يجعل في موضعه غيره [98].

وسئل سحنون عن معلّم أراد أن ينتقل من موضع إلى آخر. فأجاب بأن له ذلك شريطة ألا يلحق ضررا بالصّبيان [99]. وسئل أيضا عما يأخذه المعلّم من الزّبد في البادية في فصل الربيع، يجعلون له مخضة زبد على كل بيت في المحلة. فأجاب بأن هذا العطاء ممكن ولو كان المتبرّع ممن لا ولد له في المسجد، إن كان يريد بذلك التبرّك ممن يحفظون ويحملون كتاب الله [100]. وسئل أبو الطيب عما يأخذ المعلّم في عاشوراء والأعياد. فأجاب بأنه لا بأس بالأخذ في عاشوراء وأعياد المسلمين [101]. كما سئل عما يأتي به الصبيان من بيوت آبائهم من غير إذنهم بتكليف من المعلّم. فأجاب بأنه لا يجوز لهذا الأخير أن يأمر بذلك أو يقبله [102].

ب نوازل مرتبطة بالمتعلّم

هناك نوازل في المعيار تتحدّث عن إلزامية التعليم الأساسي وضرورة استئجار معلّم أو مؤدّب للصّبيان. سئل أحد أكابر السّادة المالكية سيدي عيسى أبو مهدي الغبريني [103] عن قرية امتنع بعض سكانها من بناء المسجد، وأخذ مؤدّب لقراءة أولادهم، فهل يجبرون على ذلك؟ فأجاب بإجبارهم على بناء المسجد وأخذ مؤدّب أولادهم [104]. وسئل في نازلة أخرى هل على الأب أن يجعل ابنه، ذكرا كان أم أنثى، في كتّاب ليتعلّم فيه؟ وهل الوصي كالأب في الجبر أو لا؟ أجاب ابن سحنون بأن ترك الأب تعليم ولده القرآن فعل قبيح وشحيح، ويعذر هذا الأب لفقره، وإن كان للولد مال، وجب على الولي، والقاضي، وجماعة المسلمين تعليمه [105]. وسئل عمّن له أولاد صغار وكبار، وهو فقير، فأراد أن يدخل الصغار للكتّاب ويترك الكبار يقومون عليه، هل له ذلك؟ فأجاب بالإيجاب، أي له ذلك، وليس بواجب عليه تعليمهم، وخير له تعليمهم [106].

الوالد أو الوصيّ ملزم بالنّفقة على ابنه إبّان طلبه العلم. ونذكر هنا بعض النوازل التي لها علاقة بتعلّم الطفل والتي أثبتها الشيخ الونشريسي في معياره.

سئل سيدي عبد الله الشريف [107] عن قوم جمعوا زكاتهم لشخص غائب لطلب العلم، وهو في أشدّ الحاجة لهذه الزكاة. هل تجزئهم تلك الزكاة؟ فأجاب بأنه يجوز إعطاء الزكاة لهذا الطالب إن كان فعلا في حاجة إليها [108].

من النوازل التي لها علاقة بتأديب الصبيان، نازلة سئل فيه أبو سعيد بن لب [109]  عن التحبيس على طلبة العلم الغرباء … هل يحسب من الطلبة من كان مبتدئا في قراءة القرآن أم لا؟

كما سئل اللخمي [110] عن معلّم صبيان ضرب أحد الأطفال ففقأ عينه أو قتله، هل عليه قود؟ فأجاب بأنّ على المعلّم الضارب الدّية [111].

ت  نوازل مرتبطة بالحياة المدرسية

كما تناولت النوازل الفقهية المدرسة التي أولاها المجتمع الإسلامي أهمّية كبرى كأهمّ مؤسسة في ميدان التربية والتعليم. وتظهر أهمّيتها في الأملاك المحبّسة من طرف المسلمين لصالحها من حمّامات، وحوانيت، وأرحى، وكتب … وقد وجدت في(المعيار )نوازل تعرّضت لأولوية إصلاح المدرسة على الطلبة [112].

هذه النوازل توضّح لنا مدى اهتمام المجتمع بالحياة والفضاء المدرسي من مساجد، وكتاتيب قرآنية، ومدارس، ومكتبات، وداخليات [113]. سئل عن مدرسة فيها بيوت موقوفة على سكنى الفقهاء … فسكن فقيه بيتا منها … هل يجوز له ذلك؟ فأجاب بالإيجاب إذا أسكنه الناظر[114]. وسئل كذلك عن المعلّم هل يلزمه أن ينظر في ألواح الصبيان هل فيه خطر في الأحرف أم لا؟ فأجاب: يجب أن ينظر في ألواحهم وإصلاح الخطأ [115].

ونشير إلى أن النوازل التربوية الواردة في “ المعيار’’  تتحدث، في ثلثها، عن المتعلّم، والصّبي، والولد، والطالب، والدارس [116].

ج  –نوازل مرتبطة بالمنح الدراسية

يحتاج كل متعلّم، لاستكمال دراسته، إلى مصاريف التنقل، والإيواء، والأكل، والشرب، والملبس … وقراءة نوازل المعيار تساعدنا على فهم مصادر المنح التي كانت تمنح للطلبة المتعلمين المتفوّقين، كأموال الزكاة والعشر، وأموال الوصايا والهبات. سئل سيدي عبد الله الشريف، التلمساني الفقيه المتقن [117] عن قوم جمعوا زكاتهم لشخص غائب لطلب العلم، فهل تجزئهم تلك الزكاة أم لا؟ فأجاب: إن كان أشد حاجة، جاز إعطاء الزكاة إياه [118]. كما ذكر الونشريسي أن “ جماعة من طلبة العلم قاموا … يطلبون ويذكرون سبعين مثقالا وقفت لهم لتفرّق عليهم باسم وصية أوصى بها ميّت أن يؤثر بها أهل العلم وطلبته.[119]’’

وهناك فتاوى في كتب النوازل بالمغرب أو غيرها تناقش الغصب والاستيلاء على أراضي الغير، أو تحرّم الأخذ من المال العام بدون حق.

المبحث الرابع: الفتوى والإصلاح المالي

تسعى الفتوى إلى التربية على احترام المال العام خصوصا وأن للإنسان ميلا فطريا لامتلاك المال وبعض ما يوجد في بيئته. وقد يحسن المرء استخدام ما يشترك فيه من مال مع الآخرين، كما أنه قد يستخدمه بصورة سيّئة عندما يعتدي على الممتلكات العامة. وهذا يعتمد على نوعية التربية التي يتلقاها الفرد.

وقد اعتنى المسلمون، ومنذ صدر الإسلام، بتنظيم موارد الدولة، وألّفوا المؤلّفات التي تبحث في هذا المجال، ككتاب الخراج لأبي يوسف القاضي، المتوفى عام 182 ه798/م، وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي المتوفى عام 203 ه818/م، وكتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى عام 224 ه838/م [120].

  •  الاستيلاء على ملك الغير حرام

منذ اليوم الأول لبعثة الرسول ﷺ، تصدّى الإسلام للفساد وعدّه إثما كبيرا، وأوجب محاربة الفاسدين والمفسدين. بل الإسلام بذاته ثورة ضد الفساد، بدءا من فساد العقيدة ومرورا بمحاربة فساد الأخلاق الذميمة، وانتهاء بالقضاء على مظاهر الفساد الاقتصادي والاجتماعي. فقد ذكر القرآن الكريم الفساد ومشتقات هذا اللفظ في حوالي خمسين آية.

لقد اهتمّ الإسلام بالناحية الاقتصادية كاهتمامه بكل نواحي الحياة. وهكذا اهتمّ بتحصيل المال واستثماره وحفظه بطرق مشروعة، كما اعتبره أمانة ثقيلة بيد صاحبه.

الإسلام لم يرد أن يصبح الإنسان عبدا للمال، وبيّن له أن هذا المال لن ينفعه يوم القيامة. يقول الله تعالى: “ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم’’ [121]. وهكذا منع الإسلام الغش والتزوير والرشاوي وسرقة المال العام من طرف الموظفين العموميين.

ب نوازل مرتبطة بالفساد المالي

يلاحظ، من خلال النوازل، أن الاضطرابات السياسية والاجتماعية والتحركات القبلية كانت تساعد على تفشّي ظاهرة الغصب والاعتداء على أراضي الغير. وهذه بعض الفتاوى الدالة على وجود الظلم وكيف عالجها المفتي المغربي.

-ففي الدر الثمين على أجوبة أبي الحسن الصغير[122]، أن رجلا موصوفا بالسلطانية والقهر، اشترى أرضا من بعض الورثة … فجاءه رجل وادّعى نصيبه في تلك الأرض، لكنه لم يستطع الحصول على أي شيء رغم إثباته بما يدّعي لقوة المشتري صاحب السلطة والقهر. فانتظر صاحب الحق موت المشتري ليأخذ الشفعة والغلة والبناء والغرس … [123].

  -كما جاء في النوازل الصغرى [124] لمحمد المهدي الوزّاني، المتوفى عام1342ه، أن بعض العلماء جزموا بتحريم أموال الظلمة. وحكى الفقيه أبو عبد الله القوري أن السلطان أبا الحسن المريني دعا فقهاء الوقت إلى وليمة وكانوا أهل علم ودين، فكان منهم من قال: أنه صائم، ومنهم من أكل وقلّل، ومنهم من أكل الغلات كالسمن فقط، ومنهم من شمر للأكل فأكل، ومنهم من قال: هاتوا من طعام الأمير على وجه البركة، فإني صائم. فبرر كل واحد فعله. فقال الأول: طعام شبهة تسترت عنه بالصوم. وقال الثاني: كنت آكلا مقدار ما أتصدق به لأنه مجهول الأرباب، والمباشر كالغاصب. وقال الثالث: اعتمدت القول بأن الغلة للغاصب. وقال الرابع: طعام مستهلك ترتبت القيمة في ذمة مستهلكه فحل تناوله. وقال الخامس: مستحق لمساكين قدرت على استخلاص بعضه فاستخلصته وأوصلته إلى أربابه … وخلصت الفتوى إلى أن من كان ماله حراما، لم تجز معاملته وأكل طعامه، وقبول هديته، وإن كان متشابها كره [125] .

 – كما سئل المفتي عن رجل من فاس جعله السلطان نائبا عنه بمصر. فتغلب هذا النائب على أخيه واستولى على ميراث بينهما، وأخذه وحده ظلما لشوكته. فجاءت به الأقدار لفاس، فاستدعاه أخوه لقاضي فاس على الميراث الذي بينهما بمصر، فامتنع المشتكى به الدعوى لأن الميراث يوجد بمصر. فرفض قاضي فاس طلب المدعى عليه لأن له شوكة عظيمة بمصر تحول دون حصول أخيه على حقه [126].

وهكذا نرى أن مثل هذه الفتاوى تساهم في تربية الناس، وتقوية وعيهم وتشجيعهم على المطالبة بحقوقهم أمام الظلمة المتجبّرين.

المبحث الخامس: فقهاء إصلاحيَون مغاربة

برزت بوادر الإصلاح في نهاية القرن السابع عشر الميلادي على يد علماء مصلحين مغاربة، دعوا إلى الاهتمام بقضايا الآمّة في أبعادها الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والنفسية، والعسكرية.

أ الفكر الإصلاحي لعبد القادر الفاسي 1680/1091-1599/1007) (

القارئ لإجازة الشيخ عبد القادر الفاسي لتلميذه العالم الرحالة أبي سالم العياشي، يلاحظ أن الشيخ يحثّ تلميذه على التواضع لله، واحتقار النفس، وعدم الرضى عنها وعن أفعالها، وعدم استحسان شيء من أحوالها. كما يلاحظ أنه يشجّعه على العلم النافع المصاحب للخشية من الله، وعلى الابتعاد عن الطغيان والكبر، واحتقار الغير، وأن العلم الحق هو الذي لا يؤدي إلى المباهاة والمطاولة على الأقران. كما يوصيه على عدم المزاحمة على الدنيا والتنافس فيها وفي رياستها. فالتحلي بهذه الصفات الذميمة تذهب بنور العلم، وتفسد الدين، وتكدّر صفو اليقين. هذه الإجازة هي بيان علمي أخلاقي، ظاهريا، ورسالة علمية تربوية شاملة، باطنيا … وبهذه الأخلاق والقيم، يتقلص الجهل، وتتصلح أحوال الناس، وتتقوى مركزية العلم وأخلاقه في المجتمع [127].

لقد كان الشيخ عبد القادر الفاسي زاهدا في الدنيا وفي متاعها: يرفض العطايا ويتكسّب بالنساخة رغم موقعه العلمي الكبير. لم يزاحم أحدا على مشيخة الزاوية الفاسية، بل سلّمها إلى محمد بن عبد الله معن، الشيخ الفاضل، وخدمه ولازمه إلى وفاته. فكان، بحق، زاهدا في الدنيا والرياسة [128].

ب الفكر الإصلاحي لدى الحسن اليوسي 1691-1630/1102-1040)م (

العلاّمة اليوسي من العلماء المغاربة النوابغ الذين صدعوا بكلمة الحق وبلغوا رسالة الله، وبيّنوا الحلال والحرام حتى وصف ب’’ غزالي المغرب’’ ، وقيل عنه أنه من فاتته صحبة الحسن البصري، فليصحب الحسن اليوسي، فهو يكفيه [129].

ترعرع الحسن اليوسي في مرحلة زمنية اتّسمت بغياب الأمن، وتعاقب المجاعات والجفاف، والصراع على السّلطة بين القبائل في شكل ثورات وانتفاضات. وقد عرف المغرب هذه القلاقل بعد ضعف السعديين ومجيء العلويين. فقد قسمت البلاد خلال هذه الفترة الانتقالية، وكثرت الفتن، والانحرافات السلوكية والأخلاقية الخطيرة. كما عرف المغرب فوضى عارمة، وأحداثا اجتماعية وسياسية، واضطهادا وخرابا … [130]. وهنا برز الإمام اليوسي، على أقرانه، بفقهه التغييري الإصلاحي، ناقدا وموجّها، وكذلك مسالما ومؤيّدا للسلطان العلوي المولى إسماعيل. هدفه في كل ذلك، السّعي إلى جمع شتات الأمة وتوحيد صفها، دون الخوض في الصراع السياسي الدائر حوله.

ولقد كان الإمام اليوسي، في نصحه للسلطان، صادقا وجريئا، صادحا بالحق، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، لا يخشى مواجهته، ولا يخاف في ذلك إلا الله، دون تجاوز أو شطط، هدفه إصلاح المجتمع. وقد أثنى عليه السلطان المولى إسماعيل قائلا: علماء الوقت على أربعة أقسام: قسم لا يخاف إلا من الله ولا يخاف منا، وقسم يخاف من الله ومنا، وقسم يخاف منا ولا يخاف من الله، وقسم لا يخاف منا ولا من الله. ولوّح بأن الإمام اليوسي من القسم الأول [131].

العالم اليوسي رجل رأي ورجل عقل على المستوى العملي. فقد ساهم، داخل دار تامكروت، في إصلاح ذات البين بين القبائل وأحلافها. وكان الحكم عنده هو الشرع وكتاب الله وما أرشد إليه النبي ﷺ. طلب العلم والاشتغال بالتعليم، هو الجهاد الثاني عند اليوسي.

ويرى اليوسي بأن الشرط الأساسي لإنجاح الإصلاح هو التعاون بين العلماء والأمراء على البر والتقوى. فبمثل هذا التعاون، سيفتح الله على أيديهم البركات، وتنتفع الأمّة من تآزرهم كما وقع عندما تآزر عبد الله بن ياسين وأمراء المرابطين، أو عندما آزر علماء الأندلس يوسف بن تاشفين فكان النّصر في موقعة الزلاقة [132]، أو عندما آزر العلماء عبد الملك السعدي وأخاه أحمد المنصور، وأطّروا كتائب المجاهدين، فنصرهم الله تعالى في “ وقعة وادي المخازن’’ [133].

زاوج اليوسي بين النقد والإصلاح، فكان نموذجا للتجارب الإصلاحية في تاريخ الغرب الإسلامي.

ويمكن أن نلخّص فكر الإمام اليوسي في النقاط الآتية: رغبته الأكيدة في إصلاح منظومة التعليم لأهميتها. فإصلاح التعليم ونشره، يساعدانه على محاربة البدع، ومواجهة الشّعوذة والعقلية الخرافية، واللجوء إلى المقابر والتوسّل والذّبح على أضرحة الأولياء والصالحين قصد قضاء الحوائج. العلامة الحسن اليوسي كان مشغولا كذلك بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الحاكم والمحكوم وبين السلطان والرعية. فالعنف السياسي كان طاغيا في هذه المرحلة التاريخية، والاستبداد كان متفشّيا. فقمعت الحريات، وبلغ ظلم وجور الولاة على المواطنين مداه. وقد اعتبر الفقيه اليوسي أن جميع الناس عباد الله بما فيهم السلطان الذي ينبغي أن يتحلّى بصفات العدل والرحمة. وأكّد أنّ تجنّب الجور والطغيان من طرف الحاكم، من أسس الخلافة. وقد جاء في رسالته المعروفة ب “ براءة اليوسي’’ ما يلي: “ فليعلم سيّدنا أن الأرض وما فيها ملك لله لا شريك له، والناس عبيد الله سبحانه وإماء له،  وسيدنا واحد من عبيد الله وقد ملّكه الله تعالى عبيده ابتلاء وامتحانا ، فإن قام عليهم بالعدل والرحمة والإنصاف والإخلاص، فهو خليفة الله في أرضه، وظل الله على عبيده، وله الدرجة العالية عند الله تعالى، وإن قام بالجور والعنف والكبرياء والطغيان والإفساد، فهو متجاسر على مولاه في مملكته، ومتسلّط ومتكبّر في الأرض بغير الحق، ومتعرّض لعقوبة مولاه الشديدة وسخطه’’ [134].

وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، اهتمّ السلطان المصلح محمد بن عبد الله)محمد الثالث)

بإصلاح شؤون الأمة دينيا واجتماعيا واقتصاديا.

ت الحسن الزهراوي) شتنبر 1976)وفتواه حول تحريم الأخذ من المال العام

 قام موظف عمومي بإدارة التسجيل والتنبر بمدينة القنيطرة المغربية باختلاس أموال عمومية تقدّر بالملايين من الدّراهم.  

وبما أن الموظف المذكور كان يتوقّع كشف عمله الإجرامي، فقد قام بشراء عقارات بالمال المختلس باسم زوجته الفقيرة. وقد طلب وزير المالية المغربي عبد القادر بن سليمان فتوى من الفقيه الحسن الزهراوي يبرز فيها رأيه ورأي الفقه الإسلامي في هذه النازلة.

 أوضح المفتي أن مثل هذه الخيانات المالية تحرم الدولة من الأموال وتؤدّي إلى فسادات أخرى. كما أن الفقيه الزهراوي لم يبق في فتواه حبيس قضية جزئية متعلقة بفساد موظف عمومي واختلاسه لملايين الدراهم، بل تطلّع إلى محاربة الفساد الاقتصادي، بشكل عام، داخل البلاد، وربط المسؤولية بالمحاسبة. وهكذا عبّر في ختام فتواه، عن رهانه السياسي، وتمنّى، في الختام، لو أن المشرّع المغربي أحيا سنَة النبي ﷺ، وسنَة الخليفة عمر بن الخطاب، وأصدر قانون الكسب غير المشروع، لردع من لا ضمير لهم[135]. فالدولة مطالبة بتنظيم سير العمل المالي في الدولة ومؤسساتها للقضاء على السّرقة، والاختلاس، والرشوة، والتربّح من الوظيفة، واستغلال الجاه والسلطان، وخيانة الأمانة في المعاملات المالية.

ووجد في المغرب، كذلك، سلاطين علماء مصلحون أصلحوا القضاء، والإدارة، والتعليم، كالسلطان محمد بن عبد الله وغيره.  

من إعداد: الدكتور عبد القادر تلاّت (أستاذ مغربي باحث (


[1] (يقول الإمام النووي في هذا المعنى: اعلم أن الإفتاء عظيم كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى (النووي، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي: 13 و14

[2] 176 النساء،    

[3] د. عبد الحي عزب عبد العال، الفتوى وأحكامها، القاهرة،  elibrary.mediu.edu.my/books/MALO7209.pdf

[4]   د. محمد محمود محمد حسن الجمال، الفتوى واستشراف المستقبل، منهج الفتوى في قضايا السياسة الشرعية المعاصرة csi.qu.edu.sa/filesL12

[5] ابن منظور جمال الدين الإفريقي، ت 711 ه، لسان العرب، الناشر دار صادر، الطبعة 3، 1414 ه، بيروت.

[6] رواه مسلم في باب الصلة والآداب

[7] النساء، 176

[8] محمد قطناني، فقه الفتيا، مكانتها، مزالقها، شروطها (amjaonline.org/iop-content/uploads/2019/02

[9] 43 سورة يوسف :

[10] محمد بن أحمد مياره المالكي، شرح مياره الفاسي على تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام، الطبعة 1، دار الكتب العلمية، لبنان

[11] )محمد بن شاكر الشريف، الفتوى وتغيير المجتمعات، صيد الفوائد saaid.net/Doat/alsharef/67.htm)

[12] 3/1496 فتاوى ابن رشد :

[13] النساء، 127

[14] النساء، 176

[15]يوسف، 43  

[16] يوسف، 46

[17] يوسف، 41

[18] الكهف، 22

[19] النمل، 32 

[20] الصافات، 11

[21]الصافات، 149

[22]Alqa : bas.com/article/5874736 سؤال فهد المعجل، الفتوى وشبهة السياسة  

[23] “  يستفتونك قل الله يفتيكم’’ النساء، 176

[24] portal.arid.my/ar-LY/Publications/Details/16730.

د. طه أحمد الزيدي، الفتاوى السياسية ودورها في إدارة الأزمات

[25] الفتوى Al Moqatel, moqatel.com/openshare/Behoth/Denia9/Fatwa/sec02doc_cvt htm تعريف الفتوى، وموجز لتاريخ نشأتها

[26]أنظر حديث البخاري رقم 2587، وحديث مسلم رقم 1623 حول المرأة التي أرادت أن تشهد النبي على موهبة من زوجها لابنها.

[27] كما ورد في حديث البخاري رقم 1117 عندما سأل عمران بن حصين النبي عليه السلام عن الصلاة وبه بواسير.

[28]  لاالشاطبي، الموافقات/4 /251

[29] البخاري رقم: 338 ومسلم رقم 368

[30] الحديث أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس الفتوى

[31]حديث رواه البخاري رقم 1953 ومسلم رقم 1148

[32] أحمد الزومان، هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوىalukah.net/sharia/0/40808/

[33] ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله  /2/166

[34]  كرم من الله السيد، هل كان الصحابة يفتون في عهد النبي، akhbarelyom.com/news/newdetails/3490412/1/الإفتا تجيب

[35]  نزار عبيد فرحان، الفتوى وتطورها في العصور الأولى mabdaa.edu.iq/wp-content/uploads/20/02/4-1

[36]  “الفقيه والمتفقه، في سنده ضعف ، ص : 394’’ رواه الخطيب في

[37]  معالم الفتوى عند الصحابة رضي الله عنهم khutabaa/com/ar/article/

[38]رواه الخطيب في الفقيه والمتفق، ص: 739 

[39]  كرم من الله السيد، هل كان الصحابة يفتون في عهد النبي، akhbarelyom.com/news/newdetails/3490412/1/الإفتا تجيب

[40] بلتاجي، محمد، منهج عمر في التشريع الإسلامي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424ه/2003,43-40- ص:

[41] سورة التوبة، 60

[42] بيان الإسلام، ادعاء مخالفة عمر بن الخطاب للتشريع الإسلامي في منعه لسهم المؤلفة قلوبهم bayanelislam.net/Suspicion.01005-0003

[43] 100التوبة،

[44] .د. نزار عبيد فرحان، جامعة الفلوجة، كلية العلوم الإسلامية، مجلة الجامعة العراقية، العدد 53، العدد: 2ج: , 51ص:

[45] 51نفسه، ص :

[46] Abohalah 2020.blogspot.com/2014/08/blog …post.html

[47]Alukah.net/sharia/01/105223 د. عبد المنعم نعيمي، الدور الاجتماعي للفتوى الشرعية من خلال علاقتها بالمجتمع في ضوء نصوص القرآن، 

[48] د. عبد المنعم نعيمي، أهمية الفتوى الشرعية الصحيحة في تصحيح مفهوم التغيير، alukah. Net/sharia/0/104929

[49] سورة النساء، 127

[50]Alukah.net/sharia/01/105223/ د. عبد المنعم نعيمي، الدور الاجتماعي للفتوى الشرعية من خلال علاقتها بالمجتمع في ضوء نصوص القرآن

[51] د. عصام تليمة، التربية بالفتوى في الخطاب الفقهي    aljazeera.net/opinions/2023/9/20

[52]ء، 127   سورة النسا

[53] د. أسعد محمود حومل، أيسر التفاسير، ج 1، مطابع دار النور، باريس، ص: 340 و 366

[54] سورة النساء، 176

[55] سورة البقرة، 189

[56] د. أسعد محمود حومل، أيسر التفاسير، ج 1، مطابع دار النور، باريس، ص: 100

[57] سورة البقرة، 215

[58] سورة البقرة، 217

[59]aljazeera.net/opinions/2023/9/4 د. عصام تليمة، التربية بالفتوى في القرآن والسنة النبوية  

[60] سورة البقرة، 219

[61] سورة المائدة، 4

[62] سورة البقرة، 220

[63] سورة البقرة، 222

[64] سورة الأعراف، 187

[65] سورة الأنفال، 1

[66] د. أسعد محمود حومل، أيسر التفاسير، ج 1، مطابع دار النور، باريس، ص: 622

[67]Alukah.net/sharia/0/40808 الشيخ أحمد الزومان، هدي النبي صلى الله عليه السلام في الفتوى،

[68]  رواه البخاري 338 ومسلم368   

[69] رواه مسلم  من حديث أبي موسى الأشعري رقم 614

[70] رواه مسلم رقم 1336

[71] رواه أحمد بإسناد صحيح، رقم 17288

[72] رواه البخاري ومسلم

[73]Habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/8783, 2001 /1422 محمد الطلحاوي، ملامح الاتجاه الإصلاحي لدى العلماء في عهد الدولة العلوية، دعوة الحق، العدد 363

[74] نفسه

[75] محمد بن شاكر الشريف، حاجتنا إلى السياسة الشرعية، saaid.org/Doat/alsharef/E.htm

[76] محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، ط أولى، 1422/م2OO1

[77] أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، 15/1. مكتبة دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. Ibnaljawzi.com

[78] محمد عبد الرحمن صادق، خدعوك فقالوا لا تتكلم في السياسة، بصائر الفكر،30 يناير2020 , basaer-online.com/2020/01

[79]مجموع الفتاوى (522/11) ابن تيمية، ;  6 /382الحافظ بن حجر:’’الإصابة’’ ; ابن القيم، إعلام الموقعين 4/284

[80] زاد المعاد في هدي خير العباد، ط. الرسالة، بيروت،  ابن القيم الجوزية،  3/497

[81] عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، كتاب شرح تفسير ابن كثير، المكتبة الشاملة، shamela.ws/book/37048 :134

[82]  محمد بن شاكر الشريف، حاجتنا إلى السياسة الشرعية، saaid.org/Doat/alsharef/E.htm

[83]  محمد بن شاكر الشريف، حاجتنا إلى السياسة الشرعية، saaid.org/Doat/alsharef/E.htm

[84]  alqabas.com/article/5874736 سعاد فهد المعجل، الفتوى وشبهة السياسة، القس، 2 يناير2002،

[85]  جعفر عبد الرزاق، الدستور والبرلمان، دار الهادي، بيروت، الطبعة الأولى. مجلة النبأ، العدد 59تموز 2001 csi.qu.edu.sa/files/12.

[86]  د. عبد المجيد النجار، تجديد فقه السياسة الشرعية، بحث مقدم للدورة السادسة عشر للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ص: 2-3 ه 1427/م2OO6 يوليو

[87]   عبد الله ابن بية: ضبط الفتوى، ومنهجية المذاهب الأربعة، مقال منشور على موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

Iumsonline.net/ar/defaut.asp 

[88] ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ضمن ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة والمحتسب، تحقيق ليفي بروفنسال، مطبعة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1955، ص: 24

[89] الونشريسي، ج 2، 262، 266 

[90]Almanaweb.ma/  الإمام أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، ت. 914 ه 1508م

[91]Almanaweb.ma/ المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس، فتاوى طرأت فيما بين القرن 3 و9 ه، 9 و15 م

[92] المعيار، ج 8، ص: 251,

[93]Ia903006.us.archives.org/19/items/201907156_20190715,10ص: ,2022 ياسين نملين، نوازل التربية والتعليم من خلال المعيار للونشريسي

[94] المعيار، ج 2، ص: 267، 268

[95] المعيار، ج 7، ص: 36، 37

[96]  17-16/11 و236/8 المعيار، 

[97] 250/8 المعيار،

[98] 139/1 المعيار،

[99] 247/8 المعيار،

[100] 261/8 المعيار،

[101] 254/8 المعيار،

[102] 246/8 المعيار،

[103]  1/350 من أكابر السادة المالكية ، شجرة النور الزكية, 815خطيب ومدرّس بجامع الزيتونة، ت,  آبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني ،  

[104] 139/1 المعيار، 

[105] 250 – 249/8 المعيار،

[106] 239/8 المعيار،

[107] 337/1 ه، شجرة النور792 أبو محمد عبد الله الشريف التلمساني، الفقيه، ت،

[108] 394/1 المعيار،

[109] 332-332/1 ه، شجرة النور782 أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب الغرناطي، العلامة، صاحب الفتاوى المشهورة، ت.

[110] 173/1 ه، شجرة النور478 أبو الحسن علي بن محمد الربعي القيرواني المعروف باللخمي، صاحب التبصرة، ت.

[111] ، وهي نازلة خاصة بفقء العين251-250/2  و المعيار، 268-267/2 المعيار،

[112]وج 7، ص: 237  الونشريسي، ج 2، ص: 8

[113] 37، 36/7 المعيار،

[114] 266/7 المعيار،

[115]  244، 243/8 المعيار،

[116] ياسين سلين، جامعة عبد المالك السعدي،

[117] 337/1شجرة النور،

[118] 394/1, 395/1المعيار،

[119] 251/9 المعيار،

[120]Alukah.net/sharia/0/430 عبد الرحمن صالح عبد الله، أهمية التربية الإسلامية في المحافظة على المال العام،

[121] الشعراء، 88، 89

[122]الدر النثير على أجوبة أبي الحسن الصغير: هو مجموعة من التقاييد والأجوبة جمعها بعض تلامذته، توفي عام 719ه، أنظر: عمر بنميرة: النوازل والمجتمع، مساهمة في دراسة تاريخ البادية بالمغرب الوسيط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 67

[123]عمر بنميرة: النوازل والمجتمع، مساهمة في دراسة تاريخ البادية بالمغرب الوسيط، ص: 181، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 67

[124] محمد المهدي الوزاني الحسيني، النوازل الصغرى المسماة المنح السامية في النوازل الفقهية، الجزء الثالث، المملكة المغربية وزارة الشؤون الإسلامية                1413ه/م1993

[125]، 525 526ص: , محمد  المهدي الوزاني الحسيني، النوازل الصغرى، ج 3

[126] نفسه، ص: 531

[127]Habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/8783م، محمد الطلحاوي، ملامح الاتجاه الإصلاحي لدى العلماء في عهد الدولة العلوية، دعوة الحق، العدد 363، 1422ه2001

[128] نفسه

[129] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج 22، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2005، ص: 7695

[130] عبد العزيز تكني، معالم الإصلاح الفكري والتغيير السياسي بالمغرب خلال القرن 11 ه بين هاجس التأصيل وداعي التغيير، الإمام اليوسي أنموذجا، الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية، مارس 2019  ampei/ma/ ?p :15234

[131] نفسه

[132] الناصري، الاستقصاء، ج2، ص: 8، 10، 31، دار الكتاب، الدار البيضاء

[133] الناصري، الاستقصاء، ج2، ص: من: 70 إلى 78، دار الكتاب، الدار البيضاء

[134] Habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/2756،  دعوة الحق، العدد 116

[135]فتوى الحسن الزهراوي الرحماني، ص: 48


 [at1]

 [at2]